سورة البقرة - تفسير تفسير البيضاوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} اختاروها عليه واستبدلوها به، وأصله بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان، فإن كان أحد العوضين ناضاً تعين من حيث إنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمناً وبذله اشتراء، وإلا فأي العوضين تصورته بصورة الثمن فباذله مشترٍ وآخذه بائع، ولذلك عدت الكلمتان من الأضداد، ثم استعير للإعراض عما في يده محصلاً به غيره، سواء كان من المعاني أو الأعيان، ومنه قول الشاعر:
أخذْتُ بالجُمْلةِ رأساً أَزْعَرا *** وبالثَّنايَا الواضِحَاتِ الدّرَرا
وبالطَّويل العُمرِ عمراً جيذرا *** كما اشْتَرَى المُسْلمُ إذ تَنَصَّرا
ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعاً في غيره، والمعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله الله لهم بالفطرة التي فُطِرَ الناسُ عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها. أو اختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى.
{فَمَا رَبِحَت تجارتهم}. ترشيح للمجاز، لَمَّا استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه ما يشاكله تمثيلاً لخسارتهم، ونحوه:
وَلَّما رأيتُ النسرَ عزَّ بنَ دأية *** وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْري
والتجارة: طلب الربح بالبيع والشراء والربح: الفضل على رأس المال، ولذلك سمي شفا، وإسناده إلى التجارة وهو لأربابها على الاتساع لتلبسها بالفاعل، أو لمشابهتها إياه من حيث إنها سبب الربح والخسران.
{وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} لطرق التجارة، فإن المقصود منها سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين لأن رأس مَالِهم كان الفطرة السليمة، والعقل الصرف، فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم، واختل عقلهم ولم يبقَ لهم رأس مال يتوسلون به إلى درك الحق، ونيل الكمال، فبقوا خاسرين آيسين من الربح فاقدين للأصل.


{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً} لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل زيادة في التوضيح والتقرير، فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم الألد، لأنه يريك المتخيل محققاً والمعقول محسوساً، ولأمر ما أكثر الله في كتبه الأمثال، وفشت في كلام الأنبياء والحكماء. والمثل في الأصل بمعنى النظير يقال: مَثَل ومِثْل ومَثِيل كشبه وشبه وشبيه، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده، ولا يضرب إلا ما فيه غرابة، ولذلك حوفظ عليه من التغيير، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة مثل قوله تعالى: {مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون} وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد ناراً، والذي: بمعنى الذين كما في قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ} إن جعل مرجع الضمير في بنورهم، وإنما جاز ذلك ولم يجز وضع القائم موضع القائمين لأنه غير مقصود بالوصف، بل الجملة التي هي صلته وهو وصلة إلى وصف المعرفة بها لأنه ليس باسم تام بل هو كالجزء منه، فحقه أنه لا يجمع كما لا نجمع أخواتها، ويستوي فيه الواحد والجمع وليس الذين جمعه المصحح، بل ذو زيادة زيدت لزيادة المعنى ولذلك جاء بالياء أبداً على اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل، ولكونه مستطالاً بصلته استحق التخفيف، ولذلك بولغ فيه فحذف ياؤه ثم كسرته ثم اقتصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين، أو قصد به جنس المستوقدين، أو الفوج الذي استوقد والاستيقاد: طلب الوقود والسعي في تحصيله، وهو سطوع النار وارتفاع لهبها واشتقاق النار من: نار ينور نوراً إذا نفر لأن فيها حركة واضطراباً.
{فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ} أي: النار، ما حول المستوقد إن جعلتها متعدية، وإلا أمكن أن تكون مسندة إلى ما، والتأنيث لأن ما حوله أشياء وأماكن أو إلى ضمير النار، وما: موصولة في معنى الأمكنة، نصب على الظرف، أو مزيدة، وحوله ظرف وتأليف الحول للدوران. وقيل للعام حول لأنه يدور.
{ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} جواب لما، والضمير للذي، وجمعه للحمل على المعنى، وعلى هذا إنما قال: {بِنُورِهِمْ} ولم يقل: بنارهم لأنه المراد من إيقادها أو استئناف أجيب به اعتراض سائل يقول: ما بالهم شبهت حالهم بحال مستوقد انطفأت ناره؟ أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان. والضمير على الوجهين للمنافقين، والجواب محذوف كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} للإيجاز وأمن الالتباس. وإسناد الذهاب إلى الله تعالى إما لأن الكل بفعله، أو لأن الإطفاء حصل بسبب خفي، أو أمر سماوي كريح أو مطر، أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك، يقال: ذهب السلطان بماله إذا أخذه، وما أخذه الله وأمسكه فلا مرسل له، ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور، فإنه لو قيل: ذهب الله بضوئهم احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نوراً، والغرض إزالة النور عنهم رأساً ألا ترى كيف قرر ذلك وأكده بقوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ} فذكر الظلمة التي هي عدم النور، وانطماسه بالكلية، وجمعها ونكرها ووصفها بأنها ظلمة خالصة لا يتراءى فيها شبحان.
وترك في الأصل بمعنى طرح وخلى، وله مفعول واحد فضمن معنى صير، فجرى مجرى أفعال القلوب كقوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات}.
وقول الشاعر:
فتركْتُه جَزْرَ السِّباع يَنُشْنَهُ *** يَقضُمْنَ حُسنَ بنانِهِ والمِعْصَمِ
والظلمة مأخوذة من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا، أي ما منعك، لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية. وظلماتهم: ظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة يوم القيامة {يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم} أو ظلمة الضلال وظلمة سخط الله، وظلمة العقاب السرمدي، أو ظلمة شديدة كأنها ظلمة متراكمة، ومفعول {لاَّ يُبْصِرُونَ} من قبيل المطروح المتروك فكأن الفعل غير متعد.
والآية مَثَلٌ ضربه الله لمن آتاه ضرباً من الهدى فأضاعه، ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيراً متحسراً، تقريراً وتوضيحاً لما تضمنته الآية الأولى، ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر، وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم، ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة، أو ارتد عن دينه بعدما آمن، ومن صح له أحوال الإرادة فادعى أحوال المحبة فأذهب الله عنه ما أشرق عليه من أنوار الإرادة، أو مَثَّل لإيمانهم من حيث إنه يعود عليهم يحقن الدماء، وسلامة الأموال والأولاد، ومشاركة المسلمين في المغانم. والأحكام بالنار الموقدة للاستضاءة، ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها.


{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} لما سدوا مسامعهم عن الإصاخة إلى الحق وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم ويتبصروا الآيات بأبصارهم، جُعِلُوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتفت قواهم كقوله:
صُمُّ إذا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ بهِ *** وإنْ ذُكِرْتُ بسوءِ عندَهُمْ أذنوا
وكقوله:
أَصَمُّ عن الشيء الَّذي لا أُريدُهُ *** وأسمَعُ خَلْقِ الله حينَ أُريدُ
وإطلاقها عليهم على طريقة التمثيل، لا الاستعارة إذ من شرطها أن يطوي ذكر المستعار له، بحيث يمكن حمل الكلام على المستعار منه لولا القرينة كقول زهير:
لَدَى أسدٍ شاكي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ *** لَهُ لِبَدٌ أَظفَارُه لم تُقَلْمِ
ومن ثم ترى المفلقين السحرة يضربون عن توهم التشبيه صفحاً كما قال أبو تمام الطائي:
وَيصعَدُ حتى يَظُنَّ الجَهولُ *** بأنَّ لَهُ حَاجةً في السَّماء
وههنا وإن طوى ذكره بحذف المبتدأ لكنه في حكم المنطوق به، ونظيره:
أُسَدٌ عليَّ وفي الحُرُوبِ نَعَامة *** فَتْخاءُ تنفر منْ صَفِير الصَّافرِ
هذا إذا جَعَلْتَ الضمير للمنافقين على أن الآية فذلكة التمثيل ونتيجته، وإن جعلته للمستوقدين، فهي على حقيقتها. والمعنى: أنهم لما أوقدوا ناراً فذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلماتٍ هائلة أدهشتهم بحيث اختلت حواسهم وانتقصت قواهم. وثلاثتها قرئت بالنصب على الحال من مفعول تركهم. والصمم: أصله صلابة من اكتناز الأجزاء، ومنه قيل حجر أصم وقناة صماء، وصمام القارورة، سمي به فقدان حاسة السمع لأن سببه أن يكون باطن الصماخ مكتنزاً لا تجويف فيه، فيشتمل على هواء يسمع الصوت بتموجه. والبكم الخرس. والعمى: عدم البصر عما من شأنه أن يبصر وقد يقال لعدم البصيرة.
{فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} لا يعودون إلى الهدى الذي باعوه وضيعوه. أو عن الضلالة التي اشتروها، أو فهم متحيرون لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون، وإلى حيث ابتدؤوا منه كيف يرجعون. والفاء للدلالة على أن اتصافهم بالأحكام السابقة سبب لتحيرهم واحتباسهم.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9